lundi 15 octobre 2007

حوارات إذاعية: محمود درويش


كانت مقابلتي الإذاعية الأولى! قبل أيام من التسجيل، أشهد حديثا هاتفيا بين مسؤول في الإذاعة وكنت في حضرة الشاعر لوضع اللمسات الأخيرة على إعداد الحلقة. الشاعر يسأل المسؤول ممازحاً:

وهل في هذه الفتاة ما يكفي من غباء فترسلونها لإجراء حديث إذاعي؟


حوار أستعيده هنا، ذكرى لخطوات أولى متعثرة قليلاً على طريق الاحتراف.


محمود درويش 8-11-91



ـ ميكروفون إذاعة الشرق من باريس شديد الفضول لمعرفة أسباب هروبك من الصحافيين ؟
محمود درويش:
شكرا على هذه الكلمات التي لا استحقها، مع أنني أوافق على أنني وقعت في أسركم أخيرا و هذا وقوع محبب، قد أكون متواطئا فيه أيضا.
سبب الهروب من الإخوة و الزملاء الصحافيين، هو أنهم أكثر مما يتحمل وقت أي إنسان و أنّ الصحافيين لا يرحمون و يعتصرون المادة التي يتعاملون معها و البشر الذين يتعاملون معهم باعتبارهم مادة استهلاكية و كل هذا ليس صحيحا و لكن الصحيح هو أنني أخاف من الاستجواب، أخاف من الجلوس على مقاعد الاعتراف، لهذا ادّعي أنني مشغول و اهرب من الصحافيين خوفا من الأسئلة المحرجة و أرجو أن أتمكن هذه المرة أيضا، رغم وقوعي رهينة بين أيديكم ، أتمنى أن أنجو من فخ الأسئلة الصعبة و أرجو أن تكوني رحيمة بي ، حتى لا أواصل هذا الهروب.


ـ حاضر الشاعر من ماضيه كيف يرى محمود درويش ولادة و طفولة و دراسة الأمس في قدر الحاضر و نضال المستقبل ؟

محمود درويش:
عندما ننظر إلى الوراء ننظر عبر كثافة الزمن إلى المكوّنات الأولى، لا لكي نتدرب على كيفية الصمود أمام الحنين الإنساني نحو الماضي، بل لكي نزيد ولاءنا و ارتباطنا بمكوّنات تكويننا الأول. الماضي كله بالنسبة لي عبارة عن مكان ولادة .
ولادة شخصية وولادة شعرية وولادة وطنية و إنسانية، كل ما أحاول أن أفعله في نشاطي و في كتاباتي الشعرية و في كتاباتي الأخرى هو أن أكون جديرا بهذه الولادة. لقد ولدت في ارض مقدسة، ارض السيد المسيح و ارض سائر الأنبياء و ارض ملتقى الحضارات و الثقافات و كل العصور ، فأنا حريص على أن أكون مواطنا جديرا بهذه المعاني التي تحملها بلادي و حريص على أن أطوّر إنسانيتي و فنية تعبيري عن هذه الإنسانية لكي أكون ابنا بارا لهذا الوطن و لهذه المعاني. أنا انظر إلى الوراء، إلى الولادة و إلى الماضي، من هذا المنظور الثقافي و الإنساني.

ـ قلت يوما انه لا يزال في وسع الكلمات أن تحمل صاحبها و أن تعيد حاملها المحمول عليها إلى داره ، في سياق رسائل تبادلتها مع سميح القاسم . هل الكلمة اليوم لا تزال قادرة فعلا على تحقيق حلم الرجوع إلى الوطن و استرجاع الأرض، أم انه غرق في شاعرية لن تبصر النور بهذه السهولة؟

محمود درويش:
نعم من أحد طموحات الكتابة هي أن تصوغ واقعا بديلا ،أو واقعا محلوماً به إذا جاز التعبير، للواقع الذي نعيشه . أحيانا ننشئ أوطانا في الكلمات، ننشئ أزمنة و فصولا في الكلمات و قد قلت هذه العبارة في سياق تعبيري عن نوبة الحنين الجارف إلى ماضيّ الأول، إلى مكاني الأول و كنت اعبر عن هذا النزيف الحنيني، من خلال الكلمة . كان دافعي الأول من خلال هذه الكتابة، هو أن أعود ، أن اكسر جسر الرحيل المضاد، و أبني جسرا للعودة وكنت اعتذر عما بدا لي انه خطأ و هو أنني لست هناك . و بعد أن كتبت كل هذا الحنين في رسائل، اكتشفت أنني قد عدت و اكتشفت أن سميح القاسم، قد هاجر في الاتجاه المعاكس. إذن في وسع الكلمات فعلا أن تنقلنا إلى حيث نريد أو إلى حيث هي تريد. للكلمات أحيانا سطوة أكثر من سطوة وعينا عليها ، لها منطقها الخاص و لها ديناميكية خاصة، قد تسيرنا في اتجاه قد نريده و قد لا نريده .

ـ  تتحدث عن خطأ ارتكبتَه ، انك لست هناك، و تكره تعبير الداخل و الخارج لكن دعني أتحايل على التعبير و لنتحدث عن أدب المنفى و أدب تحت الاحتلال أي عناوين تحدد الفرق برأيك؟
محمود درويش:

لستِ مطالبة بان تترددي في طرح الأسئلة الصعبة ، ما دام أنني وقعت في شرك القول أنني ارتكبت خطأ. فعلا أنا على استعداد لان أطور شرح هذه المسألة.صحيح أنا لا أحب الوقوف أمام مصطلحَي الداخل و الخارج باستخدام تناقضي ، ليس هناك فهم متناقض لطرفي المعادلة و لكن أنا مقتنع أنني أفضل ، لو أُتيح لي أن اختار ظروفي . أنا عاجز عن ذلك، لأنني ابن ظروفي ، لكن لو قدر لي أن أكون أكثر حرية في اختيار ما اخترت، لاخترت أن أبقى هناك. انطلاقا من هذه النقطة إن وجودي في أي هنا خارج هناك هو وجود طارئ ، وجود خاطئ ، و عندي قدرة على النقد الذاتي و القول انه كان عليّ أن ابذل جهودا اكبر من اجل أن أبقى هناك، كي لا احمل هذا التوتر الشخصي بين الداخل و الخارج فيّ أنا و ليس في الواقع نفسه . فأنا صحيح في الخارج و لكنني ما زلت اشعر و أتصرف كأنني في الداخل ، إنّ توتر الداخل و الخارج هو في تكويني و ليس في واقع العلاقة بين الداخل و الخارج .

ـ  تتكلم عن تقصير منك و بك و فيك و عن قدرة على انتقاد الذات لكن محاسبة الذات تختلف عن نقدها ألا تعتقد ذلك؟
محمود درويش:
أنا دائما أحاسب نفسي كل ليلة قبل أن أنام، أراجع سلوكي و كلامي و نشاطي طيلة نهاري ، و أقول دائما ،كان في وسعي أن افعل هذا لا أن افعل ذلك و خاصة أن هذا الإحساس يزداد عندي ، كلما ازداد إحساسي بان هناك شيء يهرب من يدي و هو الوقت .هو الإحساس بالزمن فعلا، يجعلني أكثر حرصا على محاسبة الذات لاختبار جدوى الحياة التي أنفقها .هل أنفقتها بالاتجاه الصحيح ؟و طبعا أحد المحكات الأساسية في هذه العملية هو ما يفيد كتابتي. دائما ألخّص ، هل كان نهاري مفيدا لكتابتي؟ هل كانت قراءتي كافية؟ هل كانت محاولتي للكتابة كافية ؟هل كان هذا الحوار أو ذاك مفيدا شعريا أم لا ، لأنني أصبحت في زمن أحاكم فيه الأمور كلها محاكمة شعرية و أرجو أن أتمكن من الاحتفاظ رغم كل أعمالي غير الشعرية، بهذه المسافة التي تنقذني كشاعر و أيضا تنقذ حاجة شعبي لي كشاعر.
لكن هذا لا يمنع أنني املك دائما إحساسا بالتقصير كان بوسعي أن اكتب أفضل أن اكتب أكثر أن ابذل جهدا أفضل في تطوير أدواتي و تطوير تعبيري عن ذاتي الشخصية التي ليست ذاتا شخصية تماما و لكن فيها تقاطع حاد و عضوي بين الذات العامة أو مع الذاكرة العامة لذلك لا أخشى الاعتراف…

ـ محمود درويش المحروم من متعة التخطيط لست ساعات مقبلة، مخطوف دائما كما تقول إلى لا مكان. هل هي نتائج الانسلاخ عن التراب أم هناك سر آخر لهذا اللااستقرار الدائم.

محمود درويش:
اللا استقرار هو أحد أسماء مأساتنا الشخصية و الوطنية ، المكان هو جوهر كل العمل و الكتابة و النشاط الفلسطيني .إذا أردنا أن نلخّص موضوعنا، موضوع جدوانا ، موضوع روحنا، فهو المكان المفقود ، المكان الذي سرق منا و العمر الذي سرق منا أيضا في بحثنا عن هذا المكان عن هذه الهوية .التعويض عن المكان يتم ببناء مكان من الكلمات و هذا هو أحد مهام القصيدة .القصيدة تبني مكانا أو وطنا أو شارعا أو خريفا أو ربيعا. و لكن هذا الوهم الجميل ينشط فينا الحافز على أن نكون و ينشط فينا وعي الإدراك بجدوى حياتنا و نعطي مبررا لهذه الورطة التي اسمها الحياة التي لم نقررها . وجدنا أنفسنا مولودين دون إرادة منا و لكن علينا أن نبرر هذه الولادة و هذه الحياة .عدم الاستقرار هو أحد سماتي و سمات أبناء شعبي، إضافة إلى طبيعة عملي، أنا لا املك مكانا لي ، أسافر ، و عندما اشعر أنني سأعود ، و عدت إلى البيت ،افتح الباب بالمفتاح ، لا اشعر أنني عدت. و أسال لماذا عدت هذا ليس مكاني و ليس هناك شيء أعود إليه. إذن لا عودة لي إلا العودة الحقيقية ، أي مكان اذهب إليه، أي مكان اشتاق إليه، هو شوق وهمي و مؤقت و طارئ لان مصطلح العودة بمعنى أنني عائد إلى بيتي، غير وارد في قاموسي و لا في موسوعتي الإنسانية و الأدبية، فأنا لا أعود إلا إذا عدت إلى بيتي الأول ، هناك تتاح لي إمكانية أن اختار منفاي بحرية و لا يصبح ساعتها المنفى عقدة ، لكنني الآن محروم من أن اختار منفاي. لو كان لي وطن أنا حر في العودة إليه و حر في أن أغادره، يصبح المنفى اختيارا إما شخصيا وإما اختيارا ثقافيا ، لكن أنا محروم أيضا من اختيار منفاي لأن من لا وطن له لا منفى حر له.

ـ هل افهم أن الإقامة المؤقتة في الكلمات هي إقامة مريحة و بالتالي ما هو تعريفك لمفهوم الوطن؟

محمود درويش:
أولا أريد أن أصحح انطباعا ليس دقيقا. ليس صحيحا أن الإقامة في الكلمات هي إقامة مريحة ، لان هناك توتر دائم لأنْ أغير هذه الكلمات¸ لبناء كلمات أخرى. إذا تحولت الكلمات إلى إقامة، تصاب بالجمود و الجفاف و مشكلة الشاعر انه لا يرضى أبدا عن أي بناء بالكلمات انشأ ه و أقام فيه ، فهو مضطر دائما أن يدمر ما بُني ليبني من جديد و بالتالي تصبح الإقامة غير مريحة.
بالنسبة للوطن هو المكان الذي ولدت فيه و الذي أريد أن أموت فيه و الذي أتمنى أن أعيش فيه أو أن تتاح لي ظروف العيش الطبيعي الإنساني فيه ، بدون تمجيد الرموز و بدون تحويل كل شيء فيه إلى رمز أو أسطورة. لقد أُتخمنا بالأساطير و الرموز ، أرهقت كاهلنا هذه العملية الدائمة، لتحويل كل شيء إلى رمز: لا بد للوردة أن تكون جرحا و لا بد لأي شيء أن يكون شيئا آخر نقيضا له. هذا تحويل الواقع إلى أسطورة و هو مهنتي الشعرية و لكنه ليس الشرط الإنساني الحقيقي لكي نعيش في وطن حقيقي، فالوطن بالنسبة لي هو ذلك الأليف، الطبيعي ،البسيط ،الخالي من الترميز و الاسطرة. كلما كان الوطن ابسط ،كلما كان وطنا حقيقيا. أتمنى أن أحقق وطني البسيط حتى و لو كان خاليا من الأساطير و الخرافات و الإبداعات الشعرية.

ـ كل هذه الغزارة في الكتابة و تعلن انك لم تحترفها بعد ، إذا كان ذلك صحيحا فمن أنت؟

محمود درويش:
أنا دائم الشكوى من أنني لم أحقق شروط التفرغ الأدبي. يؤلمني أن اشعر بين الحين و الآخر بأنني ما زلت هاويا أي اعبر عن رغبة في أن لا اعمل أي شيء آخر إلا أن اكتب شعرا أو غير الشعر و هذا تعبير عن رغبة كامنة و علنية في أنني لا أريد أن اعمل فيما هو خارج الشعر ومن هنا لا اعتبر نفسي شاعرا محترفا لأنني اسرق وقتا للشعر من نفسي ، من الآخرين لكي اكتب في الشعر، و الشعر عملية معقدة تحتاج إلى مزيد من التفرغ و مزيد من الوقت، فأنا بهذا المعنى شاعر يسعى إلى التهام الحياة كلها شعريا



ـ إذن الشعر و الحياة متلازمان برأيك.
محمود درويش:
لا شك في ذلك و أي تجريد للشعر من الحياة هو موت للشعر. أحد مرجعياتي الشعرية الأساسية التي اعتمد عليها هو الواقع و الحياة وليس فقط المصدر الثقافي أو المعرفي. لا شك انه أحد المراجع الأساسية لكن كل هذا إذا كان بعيدا عن الأخذ و الاستلهام من الواقع المعاش ، يتحول الشعر إلى عملية كيميائية ذهنية .أنا شديد التمسك بأحد ينابيعي الشعرية الأساسية أي العلاقة بالواقع. تسالين من أنا؟ أنا كنت مواطنا ، الآن أحاول أن أكون مواطنا من جديد و المواطن لا يكون مواطنا إلا في وطنه و أكرس كل حياتي من اجل أن أكون مواطنا في وطني و في هذه الرحلة اعّبر عن كل هذا الشبق و الحنين إلى الحياة الإنسانية البسيطة في وطن.اعبر عن ذلك في كتابتي طبعا دون أن أضيق مدى هذا التعامل في المباشرة و التبسيط في هذا السياق الكبير، ألتقي بالأسئلة الإنسانية و الفكرية و الفلسفية و الأسئلة التي وردت في أوصافك و التي لا حصر لها.

ـ مع فرضية استرجاع الأرض و الوطن هل يبقى مكان للشعر السياسي؟

محمود درويش:
أنا لا أرى أن هناك مجال للشعر السياسي لا في الوطن و لا في المنفى أنا ضد الشعر السياسي و لست من أنصاره و إن كنت قد كتبت في مراحل حياتي كثير من الشعر السياسي و لكن لا اعتبر أن جوهر كتاباتي هو شعر سياسي كما قد يبدو للقارئ المستعجل .شعري يتعامل مع قضايا الإنسان و الوجود و لكن ليس بالمفهوم السياسي البسيط أو الصراع السياسي المباشر لذلك لا اعتبر نفسي شاعرا سياسيا و لا أحب الشعر السياسي. أنا اعبر عن مواقفي السياسية بمقالاتي و ليس في شعري .

  ـ هل هذا يعني أن هناك هوة تفصل بين مواقفك السياسية و بين شعرك؟

محمود درويش: لا إطلاقا و لكن اعتبر أن للسياسة لغة تعبير و مجال تعبير آخر غير الشعر الذي قد يتسع لكل شيء بما فيه المستوى السياسي، لكن أن لا نراعي الطبيعة الخاصة للعمل الشعري و الطبيعة الخاصة للتعبير السياسي فهنا نقع في ورطة تسييس الشعر إلى حد يفقد فيه طبيعته .أنا ارفض الشعر السياسي و لا أحب أن اقرأه أصلا.

ـ لا تحب الليل لا تكتب الشعر في الليل و لا تطمئن لليل علما انه رفيق الشعراء عامة ما سبب هذا النفور من هدوئه و سكونه؟

محمود درويش:
أنا أحب السكون و الهدوء و لكنني لا اربط الهدوء بالسواد. قد نجد الهدوء في النهار و فعلا عندما أسال نفسي لماذا كل هذا النفور من العمل في الليل و عندما استعيد عاداتي الكتابية و خاصة الشعر، ألاحظ أن معظم ما اكتبه أو ما كتبته كتب أثناء الصباح أو أثناء ساعات النهار، أما في الليل فلا أستطيع أن اقترب بتاتا من الورق ، ربما اشعر بغياب الأمان الكافي لان اسهر دون أن أصاب بسوء، قد يكون خوفي من أن افقد الصباح القادم بسبب السهر الطويل. و لكنني أعيش في الليل و اقرأ في الليل و أقابل أصدقائي في الليل ، أما الكتابة فلا اعرف لماذا أخاف .أخاف من الدخول في مبارزة مع الليل و قد كتبت قصيدة صغيرة عني و الليل ،كل ذاهب إلى مكان، لكن الليل سيعود و أنا لست متأكدا من أنني سأعود .أو قد يكون لذلك مماحكة مع العرف العام، أن الشعر هو ابن الليل و هو رفيق الليل، هذه طبعا كانت أوصاف تقدم إلى الشعر الرومانسي العربي ،ربطوا الشعر بالليل لأنه أكثر هدوءا والقمر أكثر إلهاما ،ربما أنا احتاج إلى محلل نفسي لكي يشرح لي لماذا أخاف فأنا لا اذكر منذ أكثر من 30 عاما أنني كتبت كلمة واحدة في الليل، لكن ليلا تأتيني أفكار كثيرة و بقرب سريري يوجد دائما دفتر ملاحظات ، أحيانا اسرق حلما ،أسجل أطراف حلم ، أحيانا اكتب مقاطع كاملة و أنا نائم و اعتقد أنها عظيمة الشأن و عندما أصحو و اقرأها اكتشف مدى سخافتها ، فانسب ذلك أيضا إلى الليل و رغم كل هذا الشرح تأكدي أنني غير مقتنع بشرحي لا أجد جوابا لهذا السؤال الصعب.

ـ لا يخفى على المتابع لشعرك انه شعر خاص و ليس عام. الأم مثلا ليست كما كل الأمهات. بمعنى آخر أن كل قصيدة مرتبطة بزمان و مكان و بيئة. خصوصية أدب درويش.. لأي طبقة من الناس تتوجه لأي مجتمع و هل أنت من يعمد إلى عدم توجيه هذه القصائد لكل الناس؟
محمود درويش:
أشكرك على هذا السؤال لأنه يتيح لي فرصة أن أوضح كثيرا من المسائل الملتبسة المتعلقة بهذا الموضوع . علي أن اعترف بكل صراحة أنني عندما اكتب لا اكتب إلا لنفسي، عندما اجلس إلى الكتابة أكون محبوسا في أفق عملي و من داخل هذه الزنزانة المكانية التي اكتب بها، أستطيع أن أتجول في كثير من العصور و كثير من الثقافات و أتحادث مع كثير من البشر مع كثير من التفاصيل الإنسانية العادية الصغيرة .في هذه المحاولة أكون في ورشة إعادة بناء نفسي، إعادة تجميع أعضاء روحي و لا يعنيني في تلك اللحظة التفكير بأي اعتبار آخر، أي أنني لا أستطيع أن أرى القارئ، يهمني أن أعيد إنتاج نفسي، أن ألد نفسي بنفسي ،لا أن أواصل ارث ولادة حدثت لي دون علم مني و دون رأي لي، أي أنني أبدع نفسي من جديد بطريقة خاصة و ابدي علاقتي بالأشياء و علاقة الأشياء بي بطريقتي الخاصة .لا شك أن لكل شاعر طريقة خاصة في التعبير و الرؤيا و لغة خاصة أيضا ، فكل شاعر بهذا المعنى هو شاعر خاص .إن قصيدة الشاعر التي تشبه أخرى للشاعر نفسه هي قصيدة ميتة . يجب ألا يكرر الشاعر نفسه يجب ألا ينتج قصائد متشابهة أي دائما يتطور أو يتغير و لكن في حدود فضاء أبوة شعرية له على هذه القصائد .و القارئ أثناء الكتابة يتحول إلى شيء من الرقيب لذلك لا أرى القارئ و لا أفكر بأحد ولا اكتب لأي قضية و لا لأي إنسان. أما عندما ينتج و يخرج هذا العمل من يدي يصبح ملكية جمالية عامة و يصبح من حقنا أن نسأل هذا السؤال الذي طرحتِه بكل وضوح لمن اكتب .طبعا خارج عملية الكتابة أستطيع أن أجيب على السؤال أما عندما اكتب فالإجابة على السؤال مستحيلة .
أنا اكتب لمن يقرا الشعر اكتب لنفسي أولا. عندما تخرج مني قصيدتي تصبح ملك من يقرا الشعر ، من هنا فأنا لا أريد أن أحاكم مفهوم جمهور الشعر فهو ليس مكتوبا لكل الناس لان ليس كل الناس يقراؤن الشعر ، فالمسالة يتم ضبطها في إطار جمهور الشعر، و هذا الجمهور ليس نمطيا و ليس موحدا و ليس ذا ثقافة و طبيعة مشتركة واحدة .صحيح شعري ليس مكتوبا إلا لهؤلاء الناس و هنا يقع الاختلاف في هذا الإطار و ليس في إطار كل الناس لان ليس هناك مجتمع في العالم كله منكب على قراءة الشعر فالشعر يعني خاصة من الناس. هناك شكوى أن شعري صعب و معقد و هذا صحيح لان وعيي الشعري الآن ،مستوى معارفي و ثقافتي و مستوى حساسيتي الإنسانية و فهمي للواقع و التاريخ متطور عن فهمي عندما كان عمري 20 عاما عندما كنت اكتب قصائد حينها كان عمري الثقافي من عمر قارئي الذي كان من ذلك الجيل .
  ـ ولكن هل لنا أن ننكر ما كان للقصيدة من تأثير على المقاومة الثورة و الانتفاضة؟
محمود درويش:
أنا اعتز بان الكثير من قصائدي تحول إلى أغاني عامة ،ليس بمعنى الغناء الموسيقي بل بمعنى أن يحفظها الناس عن ظهر قلب و بعضها نراه مكتوبا على الجدران في الأراضي المحتلة كشعارات ، هذا أيضا يزيدني إيمانا بطاقة الشاعر و جدواه ولكن عند مرحلة معينة سيضيق عدد الذين كانوا في عمري الثقافي و الشعري .أنا إنسان شبه متفرغ لهذه العملية بينما الذين يقراؤن الشعر ليسوا متفرغين لهذه العملية و كلما ازدادت القصيدة التصاقا بتعقيدات العصر و بالتعقيدات الثقافية و الحداثة ،كلما أصبحت بناء أكثر صعوبة ، أكثر تركيبا و لكن هل خف عدد قرائي أم لا أنا لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال ، لان توزيع كتبي ما زال في اتساع ، إذن أنا اكسب قارئا جديدا من نوع آخر و لكن ليس طلاب المدارس الابتدائية يستطيعون أن يقراؤا شعري .الآن أصبح لوعي شعري آخر لحساسية شعرية أخرى و لكن هو يتطور في سياق كل سُلّبي الشعر، هو جزء من هذه العائلة الشعرية ، لكن له ملامح متميزة و مختلفة .في كل مرحلة من مراحل شعري يتم التعاطي معه من فئة جديدة و مختلفة عن الفئة الأخرى و بالتالي أنا أتمنى أن اكتب لكل الناس أتمنى أن يتحول الشعر إلى قوة و رواج الرواية و لكن هذا ليس طبيعيا .هذا السؤال ليس عربيا فقط ، في العالم كله الشعر مكتوب لفئة من الناس .هو مكتوب للجميع يجب أن نميز: الشعر مكتوب للجميع و لكن الذين يقراؤنه هم أقلية و هذه الأقلية تتفاوت مستوياتها و حساسيتها و إدراكها و أحيانا تجدين أن هناك توافقا حول قصيدة معينة بين ناقد كبير و عامل بسيط.

ـ تتكلم عن وعي آخر ما الذي يميز وعي اليوم عن وعي الأمس؟
محمود درويش:
إن الذي لا يتطور ، يتجمد. و لا شك أن تطورنا الراهن يؤثر على فهمنا للماضي، إننا نقرا ماضينا دائما و ماضي البشر بطريقة مرتبطة بمستوى تطورنا الراهن ،أي أن التاريخ هو دائما ، دائم القراءة الجديدة. ففهمنا للماضي الآن ليس كفهمنا له بالأمس و ليس كفهمنا له غدا ، أي أن هذه العلاقة تتطور دائما بتطور الحياة نفسها من هنا لا شيء خالد بوجوده و لا بوعينا لوجوده وطبعا هذا الوعي يؤثر على عملية اللاوعي التي تنتج الشعر.واللاوعي يؤثر على الوعي هناك عملية ديالكتكية بينهما و المسالة دائما في تصاعد ، المهم أن نعرف كيف تتطور ، المهم قبل ذلك أن نتطور ،المهم أن نقبل أن الوصول إلى شكل شعري نهائي هو جمود و ما كان حديثا يصبح سلفيا ماضيا المهم أن نعي أن قانون الوجود الأساسي هو التطور و لكن علينا أن نعرف أيضا كيف نتطور و فهمي للتطور الشعري و لشعرنا العربي ، هو انه علينا أن نتطور ضمن سياق تاريخنا الأدبي في علاقته مع التاريخ الآخر و اعني التاريخ الأدبي العالمي لا أن نكسر كل تاريخنا و نشوه فهمنا بتبني نمط أدبي مختلف.

ـ هل بإمكاننا التكلم عن احتلال ثقافي في فلسطين و هل يشكل خطرا على احتواء و تغيير الهوية الفلسطينية ؟

محمود درويش:
من المفيد أن انبّه كثير من الناس إلى مسألة أنّ الإسرائيليين استطاعوا أن يسرقوا أرضنا و أعمارنا و حرية أن نتكلم عن نفسنا بلغتنا ، أن نروي قصتنا كما نريدها. استطاعوا أن يسرقوا هذه الإمكانيات و لكنهم لم يتمكنوا من سرقة ثقافتنا أو تدمير الروح الثقافية للفلسطينيين و لا هويتهم الوطنية ، خاصة و أن ما يشاع عن الغزو الثقافي الإسرائيلي و قوته وقدرته على النجاح هي غير دقيقة.طبعا هناك مشروع صهيوني ثقافي و لكنه محكوم بحدود تجعله هو، أسير مشروع .أي أن الإسرائيلي هو من يجد نفسه مغزوا ثقافيا لأنه حصر نفسه في غيتو ثقافي.صحيح أن الإسرائيليين نجحوا بإنجاز كبير جدا هو إحياء لغة ميتة ، اللغة العبرية ،التي لم يتم استعمالها منذ آلاف السنين و أنا دائما أماحك عندما أقوم بالمناظرات مع الفكر الإسرائيلي، اسألهم ماذا يعني ذلك ؟لقد استبدلتم لغاتكم الحية بلغة ميتة لا يتكلمها غيركم ، أي أنكم أحسنتم بناء غيتو ثقافي و لغوي و أفقدتم أنفسكم القدرة على الحوار الإنساني مع الآخر ، سواء كان الآخر خصما، عدوا أو غريبا و انتم تعيشون في منطقة من العالم ، في قارة عربية ذات تاريخ ثقافي عربي ،ذات لغة عربية و لا تعرفون هذه اللغة و لا هذه الثقافة و في أي احتكام إلى حياة طبيعية بين الإسرائيليين و العرب فان العرب هم الذين سيلتهمون الإسرائيلي ثقافيا ، لان لا يمكن للثقافة العبرية أن تدمر أو تبتلع هذا التاريخ الثقافي العظيم للعرب.

ـ هل تتحدث إذا عن يوم يأتي و يندمج فيه الإسرائيليون في ثقافة المنطقة العربية؟
محمود درويش:
المقصود هو أننا نعيش الآن في عالم جديد في مشروع تأسيس نظام عالمي جديد، أنا لا اصدق و لا اعتقد أن النظام العالمي الجديد الذي يبشر به المفكرون الغربيون قد نشأ و لكن هناك مشروع لنظام عالمي جديد. لا شك أننا نعيش في واقع دولي جديد ،سماته كثيرة وواضحة إقليميا و دوليا و أنا كنت أخشى من خلال متابعتي للحملة الصحافية الغربية على الفلسطينيين و العرب من أن يُربط الموضوع الفلسطيني بالنظام العالمي القديم ، أي كانت هناك محاولة لان يشمل ما أصاب العالم القديم من دمار أن يشمل محمود درويش:
هذا هو قانون الأشياء لا يمكن لهذا المشروع الإسرائيلي الضيق الأفق و الثقافة و المحدود ، أن يلغي تاريخا ثقافيا عربيا موجودا بقوة في الموسوعة الإنسانية الأدبية و العالمية. الثقافة العربية قوية لدرجة ، أن لا يمكن لأحد أن يبتلعها ،فكيف بالحري ثقافة مازالت تتشكل و اعني الثقافة الأدبية الإسرائيلية.
لم ينتجوا حتى الآن ثقافتهم المتقدمة و المتطورة و المهدَدَة .هم المهددون ثقافيا وليس العرب، أرجو من المفكرين العرب أن يخففوا كثيرا من التعبير عن الخوف أو عدم الاحترام لقوة ثقافتهم ، لأنها غير مهددة بسبب هشاشة الثقافة الإسرائيلية.

ـ ما مدى ارتباط الغزو الثقافي الغربي بهذه المسألة؟

محمود درويش:
الغزو الثقافي الغربي يجب أن يُطرح على مستوى آخر و ليس على مستوى الثقافة الإسرائيلية ، بل على مستوى تبني العرب لأسلوب الحياة الثقافية الغربية. هنا الموضوع يُطرح ، لكن الإسرائيليين ليس لهم دور فعال و أساسي في هذا الموضوع ،ليس لأنهم أبرياء و لكن بسبب عجزهم عن تشكيل تهديد حقيقي للثقافة العربية.
على مستوى الاحتلال طبعا يحاول الإسرائيليون أن يدمروا الثقافة العربية للفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال و فعلا مستوى اللغة العربية و التعبير عنها و إتقانها لدى الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال ، يتسم بالضعف بسبب الحصار المفروض عليهم و لكن إصرارهم على التمسك بهويتهم الوطنية و الثقافية ،جعلهم يتغلبون على هذه المسالة و انهم يتقنون العربية و العبرية ،دون أن تمس العبرية روح تكوينهم العربي و التمسك بالسلاح الثقافي العربي ، هو أحد الأسلحة التي يحارب بها الفلسطينيون مشروع إلغاءهم الوطني و الثقافي.

ـ في أكتوبر 91 في حديث لمجلة (L’autre journal) قلت انه علينا أن نتبدل، متوجها بكلامك إلى الشعب الفلسطيني ماذا تعني بهذا التبدل و ما الأهداف منه؟

محمود درويش:
أيضا عدالة و مشروعية القضية الفلسطينية. فالتبدل و التكيف مع الوضع الجديد هو أن نعرف كيف نسكن جوهر المعاني و القيم التي يبشر بها النظام الجديد و هي الديمقراطية حقوق الإنسان و حق تقرير المصير و هي نفسها المفاهيم و الأهداف التي يناضل من اجلها الفلسطينيون ،أي نحن داخل هذا التاريخ الجديد و لسنا خارجه ، بهذا المعنى كنت و لا زلت أدعو إلى أن نفهم حساسية الوضع الدولي الجديد .هناك منعطف تاريخي كبير إذا لم نعرف كيف نتكيف معه بطريقة تخدم مصالحنا و تخدم مشروع بقائنا من اجل أن نتقدم فيما بعد، إذا لم نتقن ذلك فنحن مهددون بان يشملنا الانهيار الذي أصاب ما أصاب من أعمدة النظام القديم .التغير هو تغير في فهم موازين القوى في فهم طبيعة الحساسية الإنسانية الجديدة و في فهم التطورات التي حصلت بشكل زلزالي في كل أنحاء العالم .أما أن نجلس على الأطلال و نبكي عالما قديما لم يكن ملكنا ، هذا سيدفعنا إلى أن نكون جزءا من الماضي و أنا اعتقد أن الذكاء الفلسطيني و الشعور بالمسؤولية الوطنية و الوجودية لدى الفلسطينيين جعلهم قادرين على التكيف الإيجابي مع شروط العمل السياسي في الوضع الدولي الجديد ، بشكل اعتقد معه أننا تجاوزنا مرحلة الخطر و استطعنا أن نؤسس مشروع البقاء كخطوة أولى نحو مشروع الانتصار.

ـ لماذا لا نجد مغنيا فلسطينيا استطاع أن ينهض بأغنية وطنية فلسطينية على غرار ما فعل بعض الفنانين العرب اذكر منهم مرسيل خليفة و فيروز؟

محمود درويش:
الفلسطينيون يشعرون بامتنان كبير إلى الفن اللبناني الذي احتضن قضيتهم و غناها ليس غناء تضامنيا و إنما غناء تبّني، لان العلاقات بين الشعبين اللبناني و الفلسطيني عبر التاريخ هي علاقات خاصة . نحن كنا في كثير من عصور التاريخ شعبا واحدا و أرضا واحدة و بيننا علاقات تاريخية و نحن نستطيع أن نعترف بامتنان ، بأن خير من غنى لنا ليس مغنيا فلسطينيا، بل فيروز و خليفة و غيرهما. ما غنته فيروز لفلسطين لم يغنه أي فلسطيني لفلسطين ، لقد عبرَت بأعلى مستويات التعبير، عن الأرض و البطولة و عن أشياء الحياة البسيطة الفلسطينية ،من شباك وشجرة …و لذلك فيروز بهذا المعنى هي مغنية فلسطينية بامتياز، هذا يعني بان القضية في جوهرها هي قضية إنسانية و عربية ،لا يلتزم بها الفلسطينيون فقط . أما لماذا لا نجد اسما فلسطينيا لمع في سماء الأغنية الفلسطينية ،فهذا من الأسئلة المؤرقة التي اطرحها على نفسي. المعاناة موجودة الشعراء موجودون ..هذا سؤال محرج أقول لنفسي مثلا لماذا لا نجد راقصة فلسطينية؟ أما لماذا لا نجد مسرحا، فلذلك أسباب تتعلق بالتدمير الإسرائيلي للمجتمع الفلسطيني و المسرح يحتاج إلى مجتمع مستقر أما الغناء فهذا فعلا سؤال نسلطه على أنفسنا ،لماذا لا يغني الفلسطينيون ؟ألأن الغناء يحتاج إلى فرح آخر ؟لا اعتقد أن الغناء مخلوق للفرح فقط ، لكن هنا الكثير من الشعوب ليس لديها فنانون كبار ،هذا ما يواسينا ربما. و كون فيروز غنت لنا بمثل هذا المجد و خليفة بمثل هذا الانسياب، قد يضع عقبات فنية اكبر إمام أي موهبة فلسطينية ناشئة.ثم إن المغني هو نتاج مجتمع شبه مستقر و هو صناعة فنية ثقيلة يحتاج إنتاجها إلى توافر عدة عناصر خارج الموهبة الفردية للفنان و قد تكون هذه العناصر غير متوافرة في المجتمع الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال و المشغول بشكل يومي بمصارعة أمور أخرى ليس الفن الغنائي في أولها.

ـ في قصيدة يكتب الراوي يموت تتكلم على أقراص منع الوطن الآخر ما هي العلاقة التي تربطك ببيروت كمدينة اليوم؟
محمود درويش:
الكلام عن بيروت يثير الكثير من الشجن و يستدعي أيضا بعض الحذر علاقتي ببيروت و أهلها و ذكرياتها علاقة خاصة تتسم بالعاطفية و تختلط فيها أيضا عوامل ذاتية و عامة. بيروت ، إضافة إلى أنها كانت و أرجو أن تكون مرة أخرى ورشة الحوار الثقافي العربي و جزيرة الديمقراطية الفكرية للعالم العربي ،هي أيضا مدينة تتسم بصفات خاصة فأنا مثلا قضيت في هذه المدينة البحرية الجبلية الجميلة ،نفس المدة الزمنية التي قضيتها في إحدى أجمل مدن العالم و هي حيفا و قد عبرت عن حبي لبيروت بطريقة عاطفية و عضوية ،سببت لي بعض سوء الفهم. من هنا نبهت إلى ضرورة الحذر في هذا الكلام ، لان علاقتي الشخصية ببيروت ،علاقتي الشعرية هي التي شهدت فترة غالية من شبابي الشخصي و الأدبي و فيها حققت بعض ازدهاراتي الأدبية من هنا فالعلاقة بها مميزة و اعتبرها إحدى أخصب فترات حياتي الأدبية و قد كتبت عن بيروت ما لم يكتبه حتى الشعراء اللبنانيون و من المعروف أن الشعر اللبناني كان يكتب عن لبنان و ليس عن بيروت ، كان التعبير عن حب الوطن يمر من خلال التعبير عن العام ، لبنان ، الجبل ،الأرز و كانت كلمة بيروت كلمة نادرة في الشعر العربي و حتى اللبناني و من هنا حين كتبت الكثير من القصائد عن حبي لبيروت، أُسيء فهمي في بعض الأحيان و نسب تفسير هذا الحب البريء إلى اعتبارات غير أدبية و غير شخصية ، نُسب إلى اعتبارات سياسية ،كأنني ادّعي ملكية أو حقا في بيروت و طبعا هذا غير صحيح.و لم أكن أنا ذلك الذي تناول أقراص منع الوطن الآخر و لكن في الفترة و المرحلة السوداء ،مرحلة الوعي الشقي ،مر علينا جميعا في لبنان سواء كنا لبنانيين أو عربا مقيمين في لبنان، في تلك المرحلة لم يفهم الجميع حقيقة المسارات الصحيحة للأشياء و لذلك هذه المرحلة علينا أن ننساها بالاعتراف بأننا جميعا ارتكبنا أخطاء فيها. إن المَخرج الأكثر سلامة من هذه الذاكرة السوداء هي الاعتراف بأننا جميعا، عرب مقيمون في لبنان و لبنانيون ، أسأنا إلى بيروت و إلى لبنان و قد تم اليوم تجاوز مرحلة الوعي الطائش و لا يبقى منها إلا حقيقة ما يترسب من ذكريات بريئة و سليمة عن معنى بيروت و معنى لبنان .
ما كنت أقوله هو عن حق الشاعر في أن يدعي جمالية ملكية في المكان ،لا يستطيع الشاعر أن يكتب عن أي مكان كتابة حيادية أو كتابة سياحية ،لذلك عندما يكتب عن مدينة كمدينة بيروت، فمن حقه أن يدعي أنها مدينته الخاصة و قد واجهت مثل هذه الملاحظات مع أصدقائي بعض الكتاب الأسبان، فأنا اكتب عن الأندلس بشغف و لهفة و سألني بعض الأسبان هل ادعي ملكية حقوقية في الأندلس، قلت بالطبع لا ادعي ذلك، لكن الأندلس ملكية جمالية إنسانية عامة و من حق بيروت أن تفخر أنها محبوبة إلى هذا الحد و من حق هذه المعشوقة أن تتفاخر بكثرة عشاقها ،دون أن تعير عن الخوف من ادعاء حقوقي فيها، فبيروت هي للبنانيين ولكن أن تكون محبوبة و مكتوبة إلى هذا الحد ،فهذا يعني أنها قادرة على الإلهام ، قادرة على أن تكون مصدر وحي للجميع و إنها ملكية بهذا المعنى الجمالي الإنساني العامة.

ـ مسألة الصراع في الشرق الأوسط ما مدى إمكانية التوصل إلى تحقيق سلام قريب؟

محمود درويش:
الصراع في الشرق الأوسط هو بين حق عربي تعرض لأكبر عملية سطو في التاريخ المعاصر على أيدي الاستيطان الإسرائيلي و بين حق العرب و الفلسطينيين باستعادة هذه الحقوق. طبعا هناك إمكانية لمصالحة بين العرب و الإسرائيليين ، إذا تمكن الإسرائيليون من الانتصار على أهوائهم التوسعية و الاستيطانية و على انغلاقهم على الذات و على احتكار الله و الأرض و إذا اعترفوا بضرورة التعامل الإيجابي مع روح العصر الجديد و هو روح تقديس حق الشعوب في تقرير مصيرها و عدم صلاحية العدوان و الاستيلاء على أراضى الغير بالقوة ، أي إذا اعترفوا بضرورة الانسحاب من الأرض العربية و الفلسطينية المحتلة و اعترفوا بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ،فان السلام يصبح ممكنا وواقعيا و ندخل في عهد جديد من التعايش. اعتقد أن هذه الفرصة و إن طال تحقيقها، لا بد لها أن تتحقق و لا بد للمجتمع الدولي بان يشعر بان الاحتلال الإسرائيلي يشكل نشازا لروح العصر الجديد و انه لا يمكن للسطو و الاحتلال أن يسيطرا على إرادة الشعوب إلى مدى طويل .أنا لا أعتقد أن السلام العادل ممكن لأنه لا يزال طويلا و لكن السلام الواقعي ممكن ، إذا تحققت شروط معينة في أولها الانسحاب الإسرائيلي الكامل بدون أية شروط ،من الأراضي العربية و الفلسطينية المحتلة .

2 commentaires:

Anonyme a dit…

Bonjour !
Mahmoud Darwich toujours aussi pointu et fidèle à lui-même.
Pouvez-vous m’indiquer la référence de la saisissante photo qui accompagne ce post ? Merci

ريتا خوري a dit…

chahid
Au fait j'ai trouve la photo sur le net en tapant "mahmoud darwich" sur google photo..
merci de votre passage
meilleures salutations